التربية على قيم التعايش
- Admin
- 15 janv. 2016
- 4 min de lecture

في حوارنا المستمر عن التسامح والتعايش بين أهل الأديان المختلفة والثقافات المتعددة، لا نكف الحديث عن القوانين والعهود الدولية التي توثق لمبدإ "حرية المعتقد"، وتنظم علاقة المجتمعات الدينية بالدولة الراعية لها في إطار "المواطنة" من جهة، ومن جهة أخرى علاقة الشعوب والأمم فيما بينها في إطار ما صار يصطلح عليه اليوم ب "المواطنة العالمية". لكن أليس منطقيا، إن لم يكن جليا، أن التحدي الماثل أمامنا هو تربوي أكثر من كونه قانونيا وتشريعيا؟ أليست البرامج التعليمية هي من يؤسس للتربية على قيم التسامح والتعايش"؟ وهل تغيير المناهج المدرسية، بما يكفل "التربية على القيم"، كافٍ لتحقيق الهدف المنشود؟
لقد أصبحت التربية أداة فاعلة اليوم في مواجهة مختلف مظاهر التعصب والتطرف والاقصاء في المجتمع، وأصبحت معنية بتأصيل قيم الديمقراطية في أعمق مناحي الحياة الإنسانية. وليس من السهل الاتفاق حول مفهوم القيم، وذلك بسبب تعدد الخلفيات والمرجعيات المنطلق منها. وتحوز هذه القيم ضرورتها في كونها هي ما يمنح الحياة معنى، ومن ثم فإن فقدان القيم هو فقدان للمعنى. أما القيم في الحقل التربوي فهي " مجموعة المعايير الموجهة لسلوك الإنسان ودوافعه في تناسق أو تضارب مع الأهداف والمثل العليا التي تستند إليها علاقات المجتمع وأنشطته، ولذلك فهي تتميز عن غيرها من الدوافع السلوكية، كالعادات والاتجاهات والأعراف، في كونها تتضمن سياقا معقدا من الأحكام المعيارية للتمييز بين الصواب والخطإ وبين الحقيقي والزائف، وتمثل وعيا جماعيا، وتكون أكثر تجريدا ورمزية وثباتا وعمومية".
مما هو مسلم به اليوم أن الديمقراطية تسعى دائما إلى تطوير المجتمع وتحسينه ومده بقيم الحرية والتسامح والعدالة والسلام، لذلك على التربية أن تعد الأطفال ليصبحوا مواطنين مسؤولين عن المجتمع ومحافظين على ترسيخ قيم ومبادئ الديمقراطية. والطريقة الأفضل لتحقيق هذا الهدف هي تنظيم المدارس وإعداد مناهجها استنادا إلى قيم الحق والعدالة الإنسانية، وتطهيرها من جميع الأفكار المناهضة لقيم التسامح والتي تحرض على العنف والتسلط والإكراه والتعصب والتطرف، هذا إذا أرادت المدرسة أن تمارس دورها الديمقراطي. وعليها في نفس الوقت أن تمارس دورا تربويا في نشر قيم السلام والإخاء والمحبة بكل أشكالها وتجلياتها الإنسانية، وتربية الأطفال على احترام الثقافات المختلفة وتقدير التنوع الثقافي وقبول الآخر والتعاون معه على أساس "الوحدة في التنوع".
وتتحقق التربية على قيم التعايش اليوم من خلال التربية على المواطنة، ونقصد بها التنشئة الاجتماعية التي تستهدف تكوين "المواطن الصالح". فالتربية على المواطنة تتوخى تنمية الوعي بالحقوق والمسؤوليات الفردية والجماعية والتدرب على ممارستها، مستمدة وظيفتها المجتمعية من مساهمتها في تكوين المواطن القادر على السير بالمجهود التحديثي والتنموي لبلاده إلى الأمام. وقد تضَمَّن الميثاق الوطني للتربية والتكوين في مواده الخمس الأولى، التي اصطلح على تسميتها بالمرتكزات الثابتة، الخطوط العريضة للفلسفة التربوية المُوجِّهة للمنظومة الوطنية للتربية وحددت بذلك ملامح شخصية المواطن المرغوب في تكوينه في الغايات والمثل العليا التالية: " التحلي بالاستقامة والصلاح والاعتدال والتسامح؛ الشغف بطلب العلم والمعرفة والتوقد للاطلاع والإبداع؛ التطبع بروح المبادرة الإيجابية والإنتاج الفعال؛ التمسك بثوابت وبمقدسات البلاد (الإيمان بالله، حب الوطن، التمسك بالملكية الدستورية)؛ التشبع بالرغبة في المشاركة الإيجابية في الشأن العام والخاص؛ الوعي بالواجبات والحقوق وتبني الممارسة الديمقراطية؛ الانفتاح على الآخر والتشبع بروح الحوار وقبول الاختلاف؛ التشبث بالتراث الحضاري والثقافي للبلاد بتنوع روافده وحمولته من القيم الخلقية والثقافية؛ التوفيق الإيجابي بين الوفاء للأصالة والتطلع الدائم للمعاصرة في تفاعل مع مقومات الهوية الوطنية وفي انفتاح على الحضارة الإنسانية العصرية؛ المساهمة في رقي البلاد وتقدمها العلمي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني والانفتاح على العالم".
هنا تجدر الإشارة إلى أن التربية على المواطنة يجب أن تشمل، ضمنيا، التربية على القيم الكونية ومفاهيم المواطنة العالمية. فالوطنيّة المتطرِّفة، والتي تحض على العنف والكراهية، لا بدّ أن يُستعاضَ عنها بولاءٍ أوْسَع، بمحبّة العالم الإنسانيّ ككلّ. ففكرة المواطنة العالمية جاءت كنتيجة مباشرة لتقلُّص العالم وتحوُّله إلى قرية يَتَجاوَر فيها الجميع بفضل تقدُّم العلم واعتماد الأمم بعضها على بعض اعتماداً لا مجال لإنكاره. فالمحبّة الشّاملة لأهل العالم لا تَستثني محبّة الإنسان لوطنه، وخير وسيلة لخدمة مصلحة الجزء في مجتمع عالميّ هي خدمة مصلحة المجموع. أما "المواطنون العالميون" فهم الأشخاص الذين يسعون في طريقة تفكيرهم وسلوكهم إلى بناء عالم يتسم بالمزيد من العدل والسلام ومقومات البقاء. فالسلام الدائم لا يقتصر على الأمن وعدم التعرض للعنف فقط، كما جاء في الميثاق التأسيسي لليونسكو: " لما كانت الحروب تولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام".
والحديث عن القيم في الحقيقة يعني الحديث عن بيئة متكاملة، فالتربية على قيم التعايش والتسامح هي مسؤولية مجتمعية وليست مسؤولية المدرسة ومناهجها فقط. فإذا كان خطاب المجتمع خطابا مضادا لخطاب المدرسة فمعنى ذلك أن قيمه غير متطابقة أو متناغمة مع قيمها، وإذا لم تكن متطابقة ومتناغمة فإن المدرسة لا معنى لها، لأنها لا تحقق المشاركة في فرص الحياة ومن ثم فإنها لن تحقق التعايش وتضمنه. إن البداية الحقيقية لترسيخ قيم التسامح وقبول الآخر تبدأ من البيت ومن الأسرة الصغيرة في تسامح الأبوين مع بعضهما ومع الجيران والأصدقاء، وتمتد هذه الثقافة إلى المؤسسات التعليمية، فيكون المعلم نموذجا متسامحا مع طلابه وأصدقائه، ثم تمتد لتشمل منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الرسمية بمختلف ألوانها الاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والدينية. وهذا التغيير في الثقافة لن يتأتى إلا من خلال "عَمَليَّة التَّعَلُّم" المستمرة والموجهة لكل الفئات العمرية ولكل شرائح المجتمع.
إن السبب الأصلي للتعصب هو الجهل الذي يمكن إزالته من خلال العمليات التعليمية التي تجعل المعرفة في متناول الجميع وتضمن ألا تصبح ملك أقلية ذات أفضلية. وعديدة هي بالطّبع المسائل التي يجب أن تتناولها العمليات التعليمية الجارية حاليًّا في جميع مناطق العالم. فكيف يمكن تمكين جماعات كبيرة من الرجال والنساء لتحرير أنفسهم من حدود السلبية واللامبالاة والانخراط في النشاطات التي تؤدّي إلى تطورهم الروحاني والاجتماعي والفكري؟ كيف يمكن مساعدة الشباب على اجتياز مرحلة حساسة وخطيرة من حياتهم وتمكينهم من توجيه طاقاتهم نحو تقدّم الحضارة؟ كيف تُخلق ديناميكيات ضمن العائلة كوحدة تفضي إلى الازدهار المادي والروحاني دون غرس مشاعر النفور في الجيل الصاعد تجاه "آخر" وهمي؟ وكيف يكتسب الوطن أهميته باعتباره إطارا جامعا تتشكل من خلال تفصيلات تاريخه وخصوصيات حاضره وملامح سيرورته المستقبلية عناصر وعي جماعي مرجعي بقيم مشتركة هي أساس هويتنا الإنسانية؟
كثيرة هي التساؤلات التي تخالجنا، وكثيرة هي التحديات الماثلة أمامنا لكي نستطيع التعايش معا في محبة وسلام. لكن ما نحتاجه اليوم أكثر من أي شيء آخر هو إيجاد نظرة جماعية للأمور، والبحث عن الحلول من خلال عملية تشاورية وبمنحى تَعَلُّمِي، مستلهمين أفكارنا من تراثنا الإنساني ومن التجربة العملية. وفي نظام عالمي كالذي صرنا نعيش فيه لا يمكننا تحقيق التقدم في معزل عن الآخرين، وما ينتظرنا من تحديات يتطلب التعاون من الجميع. فالأَرض وطنٌ واحد، وكلُّ البشر سُكانه.
Comments