ماذا نعرف عن الله ؟
- Admin
- 8 juil. 2016
- 4 min de lecture

"الله" أو "لفظ الجلالة"، كما يصفها اللغويون، كلمة دالة على المعبود خالق الكون وموجد الوجود. وهي من أكثر الكلمات استعمالا في حياتنا اليومية وأيضا من أكثرها غموضا وجدلية. هي كلمة يرددها المؤمنون في صلواتهم ومناجاتهم، ولكن حتى خارج النطاق الديني التعبدي نجدها تحتل حيزا مهما من تعابيرنا سواء كان ذلك بوازع إيماني أو من باب التقليد والاعتياد. فنحن نقول "إن شاء الله" ونقصد بها الخضوع والإذعان لمشيئة الله، وأحيانا نقولها فقط من باب التسويف الذي يوحي ضمنيا عدم القيام بالشيء. ونحن نقسم بالله إيمانا لإثبات صدقنا، ونقسم بالله شكلا حين نؤدي قسم أبقراط لمزاولة مهنة الطب وإن كنا نؤدي هذا القسم بكل جوارحنا. وهناك من يردد كلمة "الله" بكل خشوع وتضرع وهو يستمع للكلمة الإلهية وآخر يقولها بكل انتشاء في ليلة بيضاء على إيقاع أغاني أم كلثوم.
فهل لهذه الكلمة السحرية نفس المعنى عند جميع البشر؟ هل هي أصلا كلمة رائجة لدى جميع الشعوب والملل ولو بلغات مختلفة؟ أم أنها مرتبطة فقط بثقافة بعينها؟ هل يمكن أن تكون هي الحقيقة المطلقة التي نبحث عنها جميعا ونسميها بأسماء مختلفة؟ وإن كان لا يهمنا في هذا التحليل أصل الكلمة واشتقاقها بقدر ما يهمنا مدلولها وارتباطها بمفاهيم "الإيمان" و "الإلحاد" و "الدين" و "الحقيقة".
في الثقافتين العربية (اللّهم) والعبرية (إيلُهِم) ارتبطت هذه الكلمة بمفهوم العبادة والإله المعبود. وعموما، فإننا نجد ما يقابلها في كل المجتمعات الدينية على اختلاف لغاتها وثقافتها. ويبقى الفرق قائما حول مدلولها أو بشكل أوضح حول التصميم أو التجسيد أو المخيل المرتبط بهذا النوع من الإدراك اللامحسوس. فالخالق الذي يسمى "البراهما" في الديانات الأسيوية القديمة ومنها الهندوسية يختلف في مخيلتنا عن الخالق الذي يسمى "الله" في الديانات الإبراهيمية. وحتى بالنسبة لهذه الأخيرة فإن "ربّ الجنود" ليس هو "الأب السماوي" وليس هو من "كان عرشه على الماء".
قديما كانت المفاهيم المتعلقة بالإيمان والاعتقاد مستمدة من الأديان بصفة خاصة، ولم يكن ممكنا إعطاء أي نظرية عن الخلق والخالق خارج الإطار الديني. فقد كان العقل البشري قاصرا عن إدراك وجوده وعاجزا عن تفسير الظواهر الطبيعية المحيطة به، وبالتالي وجد في النص الديني ما يبدد حيرته ويشبع فضوله. غير أن معظم النصوص الدينية اعتمدت أسلوب المثل والمجاز وتطلبت تفسيرات واجتهادات لشرح محتواها وتبسيط معانيها، مما جعلها عرضة لتحريف المعنى وضياع الهدف. للأسف الشديد أصبحت هذه التفسيرات هي الشائع المتداول من الدين بين العامة وأصبح الاجتهاد المعتاد هو الأصل وأي فهم أو تفسير غيره يعد افتراءً وهرطقة. وفي عصر تطورت فيه العلوم والمعارف وأصبح مجال الرؤية يشمل أبعد الأشياء وأصغرها، تحطمت الحدود القديمة وتضاربت المعرفة العلمية الحديثة مع سابقتها المستنبطة من النصوص الدينية وأصبح الدين وكل المفاهيم الوجودية المرتبطة به محل شك وتكذيب.
اليوم يوجد بيننا من لا يؤمن إلا بالملاحظة والتجربة العلمية ويسعى تدريجيا إلى فهم الجانب المكتشف من الوجود لكنه وبكل معارفه وتقنياته يقف عاجزا أمام البعد اللامتناهي للكون في المكان والزمان ولا زال يحيره عالم الخلية بتفاصيله المجهرية ولا يسعه إلا إعطاء النظرية تلو النظرية. هؤلاء نسميهم ب "الملحدين" لأنهم رفضوا فكرة الألوهية أو الاعتقاد والإيمان في وجود إله واحد أو آلهة متعددة تتحكم في الكون والوجود. من ناحية أخرى يوجد بيننا من يؤمن بالحقيقة المطلقة المتمنعة عن الفهم والإدراك حيث أن أكثر ما يمكن وصفها به هو كونها تلك القوة الكلية التي تتحكم في كل الأشياء. وهؤلاء لا يؤمنون بأي نوع من التواصل المادي مع الإنسان في صفة الرسل وما ينتج عن ذلك من نشوء المعتقدات والأديان، ويعرفون عموما ب "اللادينيين" أو "الأدريين".
أما الصنف الثالث من البشر فَهُم "المؤمنون" بوجود الآلهة، وهو إيمان مقترن بالعبادة ويحتاج إلى وسيط بشري يستطيع التواصل مع هذه الآلهة ليدلنا إليها وبالتالي فهو يحتل منزلة بين عالم الناسوت وعالم اللاهوت. كل ما يخبرنا به هذا الوسيط أو الرسول أو المظهر الإلهي يشكل معتقدا تجتمع عليه مجموعة من البشر فيكونون مجتمعا دينيا يستمر حتى بعد موته، فيعوضه أناس عاديون من محيطه سواء كانوا من تلامذته أو من حوارييه أو من صحابته أو من سلالته، فهم أكثر من يهتدي بهديه. لذلك يصبحون هم المرجع الديني ويحتلون القيادة في مجتمع حديث التشكل. ومع مرور الوقت تتعدد المراجع الدينية على اختلاف مسمياتها من الكهنة إلى الأحبار إلى الرهبان إلى القساوسة إلى الفقهاء والأئمة. وداخل الدين الواحد قد يختلف رجال الدين هؤلاء فيما بينهم ويؤسسون طرقا ومذاهب عدة، ويصبح بعد ذلك من الصعب معرفة الفرع من الأصل والاجتهاد من "المُنزَّل" والمتشابه من المحكم.
في النهاية نحن كلنا مؤمنون! فسواء كنا مؤمنين بالملاحظة والتجربة العلمية، أو بالحقيقة المطلقة وبالمعرفة النسبية، أو بشموس الهداية التي أخبرتنا بوجود الله الغيب المنيع الذي لا يوصف بالأوصاف بغض النظر عما رسمته مخيلاتنا عبر العصور والأزمنة، نحن نؤمن بأصلنا المشترك وعالمنا المشترك ومصيرنا المشترك. فكيف لنا إذن ألا نؤمن بالوحدة في الاختلاف وبالعيش المشترك ؟!
أظن أنه في هذا العصر لم يعد مقبولا بالمرّة أن نصف الآخرين الذين لا يعتقدون نفس اعتقادنا بالكفار أو المشركين. فكل المفاهيم المرتبطة بالإيمان قد أصبحت أكثر تطورا وعمقا ونسبية. ولعلنا أدركنا أن كل ما لا نستطيع الإحاطة به هو غيب منيع لا يمكننا بأي شكل من الأشكال وصفه وتخيله. فمن كان مثلا ليتصور أن الأرض المنبسطة المترامية الأطراف هي في الحقيقة مستديرة ولا تشكل إلا مثقال ذرة في هذا الكون الفسيح، لولا أننا أوتينا المنظار وحلقنا خارج المضمار ورأينا بأم العين ما لم نكن لنتخيله ولو قرأنا في كل الأسفار.
فماذا نعرف عن الله وسط كل هذا الاختلاف؟ ماذا نعرف عن حقيقته؟ حتى نبيح القتل باسمه. ماذا نعرف عن وجوده؟ حتى نفرضه على الآخرين. ماذا نعرف عن الرسل؟ عن طبيعتهم ومنزلتهم؟ حتى نصدقهم أو نسارع إلى تكذيبهم. ماذا نعرف عن الأديان؟ عن مصدرها؟ حتى نجعل منها السماوي والأرضي. ماذا نعرف عن الكلمة الإلهية؟ عن ماهيتها؟ حتى نستطيع أن نفرق بين الأصل والتحريف. كل ما نعرفه هو مجرد معتقد، فكيف ندعي أننا وحدنا من يمتلك الحقيقة ؟!
Comments